.. بسم الله الرحمن الرحيم ..
18 عام قضيتها من حياتي كأجنبية (إن الكلمة الصحيحة هي
"مقيمة" ولكني تعودت على أجنبية بحكم أن هذا ما أطلقه علينا أبناء هذا
البلد بإستثناء القليل منهم) إلا عشرة أشهر تلك هي المدة التي كنت فيها في بلادي
ولم أكن أجنبية, ولست أكتبها هنا للتحسر على أني كنت خارج بلادي طيلة تلك السنين
على عكس أبي الذي قضى خارج البلاد أكثر من ثلاثين عاماً وأبي هو الشخص المحب للوطن
حرفياً فحب الوطن يجري في دمائه وتنطق به حروفه فجميع الأحاديث معه غالباً ما تدور
حول الوطن وهو يرى أنه مهما اغتربنا لابد لنا من العودة للوطن فهو الوحيد الذي
سيحتوينا ونكون معززين مكرمين فيه حتى وإن كُنا بلا مال، أنا هنا أعارض قول أبي
بقول علي رضي الله عنه: " الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة".
لنعد إلى العشرة أشهر التي قضيتها في بلادي لم تكن متصلة
فقد كانت الثلاث أشهر الأولى عند ما كنت صغيرة وقد عدنا حينها في إجازة، في تلك
الإجازة لا أنكر أني أحببته ولكني لم أره فعلياً حينها فكل ما رأيته كان الوجوه
المبتسمة الضاحكة رأيت حُب الأهل والعائلة ولم أدري أنه مصطنع، واستنشقت كثيراً
حينها رائحة المطر التي كانت دوماً تغزو الجو "من حسن الحظ أنه كان فصل
الخريف وهو الأجمل"، كانت الغيوم دوماً تحتل السماء وقليلاً ما تسمح لأشعة
الشمس بأن تنفذ من خلالها، كانت أياماً جميلة.
أما بالنسبة للسبعة أشهر المتبقية فهذه لم يمضِ على ذهابها
الكثير كتلك لكن الفرق أني فيها عرفت بلدي ورأيت ما لم أره في السابقة وكما أن
هناك بعض الأشياء التي لا تتغير كجمال الخريف في بلدي رغم ما يحصل فيه بسبب إهمال
الحكومة، أو جمال البحرِ والنهر فيه، إلا أن هناك الكثير من الأشياء التي تتغير.
مرت علي في السبعة أشهر تلك بقية فصول السنة وقد أحببت الشتاء
لأنه لم يكن شديد البرودة، لكني بتُ أرى الكره و الحقد في عيون بعضٍ من الأهل
والاصدقاء بل وحتى الغرباء بلا سبب أو بوجود سبب أجهله، لقد كرهت البعض بالمقابل
ولكنه كره مؤقت فبمجرد رحيل الشيء أو رحيلي عنه لا أعود أكن له الكره، رأيت أيضاً
الفساد بأنواع عدة فهو منتشر في أي وقت وأي مكان بشدة لدرجة أنك لن تخطئه.
رأيت كيف يُعامل
المقيم في بلدي، حتى وإن امتلك الجواز وأصبح مواطن فلا يزال هناك دوماً بعض الجهلة
الذين يبغضونه بسبب موطنه الأصلي وهو شي لم يكن له الخيار فيه، فهناك أنت تعامل
حسب موطنك الأصلي فإن كان أفضل من موطني تُحسن معاملتك، وإن كان أسوأ أو يوازيه في
السوء فستُساء معاملتك.
عرفتُ الغلاء في بلدي فزيادة الأسعار بلا رقيب أو حسيب، كان
الشارع يختفى أحياناً تحت اكوامٍ من القمامة، أو ورق الشجر المتيبسِ، أو ربما تلك
السيارات والحافلات التي تسير أعلاه، لكني رأيتُ أيضاً بالمقابل الحب والوفاء
والتعايش، رأيت الأمانة والقلوب البيضاء التي تساعد بلا مقابل، رأيت الإبتسامة رغم
الفقر والألم، رأيت الرغبة في القراءة والتعطش للعلم.
أنا لا أمقت بلدي ولن أفعل سيظل جميلاً ورائعاً بأهله
بوحدتهم وبأخلاقهم النبيلة، وسأفتخر دوماً بإنتمائي له وسأرغب بتحسينه وإعلاء اسمه
وهو أمر صعب ، اسأل الله أن يكون في عون شعب بلدي و أن يزيل عنهم الفساد.
وبالحديث عن الوطن تذكروا من لهم أوطان ويودون العودة لها
بشدة ولكن لا يستطيعون، تذكروهم في دعائكم بأن يرفع الله عنهم المصائب والشدائد،
تذكروا شهدائهم وموتاهم وجميع موتى المسلمين، وعاملوا اللاجئين منهم دوماً بإحسان
وكأنهم أبناء بلدكم فهم قبل كل شيء بشر.
ستظل الأرض أصل كل إنسان مهما اختلف وطنه، وسيظل الإسلام
أقوى الروابط التي تجمعنا، أنا أؤمن بشدة بمقولة "حيث ما كان الاسلام يكون
موطني" غير أن الجوازات تقول عكس ذلك !!
تعليقات
إرسال تعليق